هل كانت مفاجأة اعتذار عائض القرنى الداعية السعودي ومن دار فى فلكه، لما أوقعه بالمجتمع اقتناعا بالمذهب المتشدد أو طمعا فى أموال النفط، مما أحال حياتنا كمسلمين إلى جحيم من التشدد والغلظة والفجاجة والقسوة ومخاصمة العصر!.
هل تفاجأت حقا؟ لا، كان هذا متوقعا بعد زلزال ولى عهد بن سلمان الفقهى، الذي اعترف أن نشر المذهب الوهابى المتشدد كانبنصيحة أو أوامر الحليف الأمريكى لمساعدته فى حربه ضد روسيا فى أفغانستان، وقد آن الأوان لرجوع المملكة العربية السعودية إلى الإسلام الوسطى المتوازن بين حاجة العصر وتطبيق مقاصد الشريعة!.
إذن إنها الأوامر مرة آخرى، أو هي لعبة السياسة تدلي بدلوها فى الدين والفقه والأعراف الاجتماعية ونحن كمسلمين تدق على رؤسنا طبول تلك التغييرات ونتحمل وحدنا، جهلاً أو قهراً، الناتج النهائي لتلك الألاعيب بكلمات الله "عز وجل" وشرعه.
اجتاحنى الغضب الشديد وأنا أقرأ إعتذار الشيخ عائض القرنى وهو يعترف بلا حياء أخلاقى بأنه قد قسم المجتمع إلى نصفين متناحرين، وها أنا أزيده من الشعر بيتًا أنه قطع الأرحام ونشر الفرقة بين البيت الواحد وأشاع الغلظة والقسوة، وكان من نتائج ذلك تجرؤ الأولاد على آبائهم، وتكفير المجتمع كله تحت شعار الخروج على دين الله الذى فى نفوسهم هم فقط، وأدخل البلاد والعباد فى معارك فقهية و دينية وفكرية كان تأثيرها سلبيا على نمط الحياة الطبيعى والفكر المعتدل الذى كان سائدا فى الدول الإسلامية قبل هجوم القرنى ورفقائه وعملائه على حياتنا.
ولعل من أخطر الاعترافات التى صدرت عنه، إصدار تفسيرات وتشريعات تناقض الكتاب والسنة رغم إعلانه عما أسماه بـ "فترة الصحوة" وكان من المفروض أن يطلق عليها سنوات الغيبوبة والضلال .. وهي العقود الأربعة السابقة، والتى نعانى من آثار ويلاتها الدينية حتى يومنا هذا، بالإضافة إلى كلمة تناقض كل ما يتعلق بمعناها من حيث تهذيب الأفكار واتساع مساحة إعمال العقل والتجديد فى الفقه الإسلامي والاجتهاد فى أمور جدت على حياتنا الحالية و لم تواجهها عصور الإسلام الأولى!.
إذن كل هذه الخزعبلات الفقهية التى صعبت على الناس حياتهم وأوقعتهم فى صراع دائم مع أفكار ما أنزل الله بها من سلطان، والتى خاصمت الفطرة السليمة والمنطق الرشيد والعقل السوي وكل هذا كان من بنات أفكار سيدنا الشيخ وأمثاله، وأشار القرني بكلمات ربما كانت تدل على توفر الحماية له، وهي أن الملك فهد كان يدعم تلك الكلمات ومعه الشيخ بن باز شيخ الوهابية والسلفية المتشددة التى كانت وراء كل ما نعانيه من تزمت وخروج على السنة النبوية الشريفة التى كانت تميل إلى الأخذ بالأيسر إذا ما عرض عليها أمر من أمور الدنيا عملا بالحديث "يسر ولا تعسر"، والآية الكريمة "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك"، وهو ما فعله هؤلاء المتنطعون فأخرجوا له الدواعش كما دفعوا الشباب من غلظتهم ونشرهم لفكر اللا معقول إلى خروجهم من الدين وإلحادهم وأتصور أن الله سيحاسبهم علي ما تسببوا به لقطاع لا يستهان به من الشباب من تشويش فكرى ودينى لهم، بالإضافة إلى دفع أسرهم ودولهم أثمانا غالية حتى هذه اللحظة!.
ربما عانى المجتمع المصري بأكثر مما عانت مجتمعات آخرى من تبعات جرائم القرنى وأمثاله، ورأينا نتائجه على حياتنا كلها اجتماعيا وثقافيا وفكريا، ملبسا ومأكلا وتعاملات وفتنة وعنصرية دينية لم نعرفها يوما، لتغير وجه الحياة المشرق والمعتدل والحضارى للمصريين.
ألبسونا السواد كما سودوا حياتنا ومعتقداتنا ووضعوا خيمة التخلف على عقول، كانت تنتمي لحضارة عريقة بأفكارها وفنونها .. فتراجعنا وفقدنا هويتنا، وخصوصيتنا فى تدين معتدل لا يلغى العقل والاجتهاد ويقيم دولة الرحمة والتدين الوسطى الرحيم العادل!.
تلك جريمة كبرى حقا! جاءت الغلظة والتجهم لترسم صورة المسلم فى أذهان العالم، كما اعترف الداعيةبأنه تم نشر الغلظة والحزن، وكأن ديننا لا يوجد به إلا عقاب النار دون أمل في الجنة، والقسوة دون مكان "للرحمة" الذى كتبها الله على نفسه وحرمها هؤلاء المتنطعون!.
فطرتنا كانت سليمة عندما أنكرنا عليهم التركيز على المظهر من حجاب و جلباب و لحية ونسوا أن الدين معاملة وقضاء لحوائج الناس أحب عند الله من أى شىء آخر، وأن
أحب الناس إلى المولى عز وجل من يرحمون عباده فى الأرض، وأن كلمة الحق عند سلطان جائر من أعظم الفضائل عند الله، وهم الذين نشروا فكر الذل والمهانة والضعف وكفروا الخروج على الحاكم الظالم وروجوا لأن طاعة ولى الأمر واجبة حتى لو ظلمك وأخذ مالك وضرب ظهرك، وهكذا كرسوا للاستبداد والطغاة، وهذا ضد كل ما يمثله دين العدل و الرحمة و المساواة.
أى جريمة يعتذرون عنها اليوم وأثارها تحتاج إلى عقود لمحوها من حياتنا، حدث ولا حرج عما أصاب النساء فى مصر من مظالم إنسانية حيث أرجعوا المرأة إلى أدنى العصور ظلما لها وافقدوها كل مكاسبها الدينية قبل الاجتماعية المعاصرة وحولوها إلى مسخ إنسانى لا وظيفة ولا عقل لها إلا ما تمنحه من متعة فى الفراش أو ماعون للإنجاب.. جعلوها منزوعة الحقوق، جارية تباع وتشترى فعليا فى ردة إنسانية مخيفة لم نتصور عودتها إلى العالم، ولكن ذلك حدث بالفعل على يد الدواعش تربية الأستاذ عائض القرنى وأتباعه.
بالطبع لا اندهاش مطلقا لنفاقه بن سلمان فهو السبد المهيمن الآن وطاعته والإشادة بوسطيته واعتداله من متطلبات الأمان الذى حتما يرجوه من إعتذاره هذا، ولا غرابة أيضا أنه أعلن انفصاله عن الفكر الأممى وأكد انحيازه للوطن الأم الذى ينكرونه، قائلا إن الحياد فى تلك المسائل خيانة.. يا الله، عندما تلعب السياسة بالدين فتتاجر به وتغلبه، مما افقدنا الثقة بأى عمامة وتلك أكبر جرائمه، ولكنها فى نفسالوقت فرصة لإعمال العقل والمنطق فيما يبثه هؤلاء المتنطعون، فنرفض أحاديثهم الضعيفة التى تناقض الفطرة السليمة مثل أحاديث إرضاع الكبير والتبرك والعلاج ببول الرسول ومفاخذة الصغيرة خسئوا فعلا بما أعلنوه.
آن الأوان، الآن وليس غدا، أن نطيح بأتباع هؤلاء من منابر الجوامع ومن المنصات الإعلامية حتى ننقذ ما يمكن إنقاذه وتعود مصر لتدينها الوسطى الأصيل، ولا عزاء لسنوات الغيبوبة!
--------------------
بقلم: وفاء الشيشيني
من المشهد الاسبوعي (اليوم مع الباعة)